فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



السادس: أن يتعلق بمودة ويجعل بينكم ظرفا متعلقا بها أيضا، وعمل مودة في ظرفين لاختلافهما.
السابع: أن يجعل حالا من الضمير في بينكم إذا جعل وصفا لمودة والعامل الظرف لأن العامل في ذي الحال هو العامل في الحال، ولا يجوز أن يكون العامل مودة لذلك.
وقال مكي: لأنك قد وصفتها ومعمول المصدر متصل به فيكون قد فرقت بين الصلة والموصول بالصفة.
وعن ابن مسعود أنه قرأ: {إنما اتخذتم من دون الله أوثانا إنما مودة بينكم في الحياة الدنيا} بزيادة {إنما} بعد أوثانا ورفع {مودة} بلا تنوين وجر بين بالإضافة وخرجت على أن مودة مبتدأ وفي الحياة الدنيا خبره، والمعنى إنما توادكم عليها أو مودتكم إياها كائن أو كائنة في الحياة الدنيا {ثم يوم القيامة} يتبدل الحال حيث {يكفر بعضكم} وهم العبدة {ببعض} وهم الأوثان {ويلعن بعضكم بعضا} أي يلعن كل فريق منكم ومن الأوثان حيث ينطقها الله تعالى الفريق الآخر، وفيه تغليب الخطاب وضمير العقلاء، وجوز أن يكون الخطاب للعبدة لا غير، والمراد بكفر بعضهم ببعض التناكر أي ثم يوم القيامة يظهر التناكر والتلاعن بينكم أيتها العبدة للأوثان.
{من النار} أي هي منزلكم الذي تأوون إليه ولا ترجعون منه أبدا.
{وما لكم من ناصرين} يخلصونكم منها كما خلصني ربي من النار التي ألقيتموني فيها، وجمع الناصرين لوقوعه في مقابلة الجمع، أي ما لأحد منكم من ناصر أصلا.
{فئامن له لوط} أي صدقه عليه السلام في جميع مقالاته أو بنبوته حين ادعاها لا أنه صدقه فيما دعا إليه من التوحيد ولم يكن كذلك قبل، فإنه عليه السلام كان متنزها عن الكفر، وما قيل: إنه آمن له عليه السلام حين رأى النار لم تحرقه ضعيف رواية وكذا دراية، لأنه بظاهره يقتضي عدم إيمانه قبل وهو غير لائق به عليه السلام، وحمله بعضهم على نحو ما ذكرنا أو على أن يرادب الإيمان الرتبة العالية منها وهي التي لا يرتقي إليها إلا الأفراد، ولوط على ما في جامع الأصول ابن أخيه هاران بن تارح، وذكر بعضهم أنه ابن أخته بالتاء الفوقية {وقال} إبراهيم عليه السلام: كما ذهب إليه قتادة.
والنخعي، وقيل: الضمير للوط عليه السلام وليس بشيء لما يلزم عليه من التفكيك، والجملة استئناف بياني كأنهق يل: فماذا كان منه عليه السلام؟ فقيل: قال: {إنى مهاجر} أي من قومي {إلى ربى} أي إلى الجهة التي أمرني ربي بالهجرة إليها، وقيل: إلى حيث لا أمنع عبادة ربي، وقيل: المعنى مهاجر من خالفني من قومي متقربا إلى ربي {أنه} عز وجل: {هو العزيز} الغالب على أمره فيمنعني من أعدائي {الحكيم} الذي لا يفعل فعلا إلا وفيه حكمة ومصلحة فلا يأمرني إلا بما فيه صلاحي.
روي أنه عليه السلام هاجر من كوثى من سواد الكوفة مع لوطا وسارة ابنة عمه إلى حران، ثم منها إلى الشام فنزل قرية من أرض فلسطين، ونزل لوط سذوم وهي المؤتفكة على مسيرة يوم وليلة من قرية إبراهيم عليهما السلام، وكان عمره إذ ذاك على ما في الكشاف والبحر خمسا وسبعين سنة، وهو أول من هاجر في الله تعالى: {ووهبنا له إسحاق ويعقوب} ولدا ونافلة حين أيس من عجوز عاقر، والجملة معطوفة على ما قبل ولا حاجة إلى عطفها على مقدر كأصلحنا أمره، ولم يذكر سبحانه إسماعيل عليه السلام، قيل لأن المقام مقام الامتنان وذكر الإحسان وذلك بإسحاق ويعقوب لما أشرنا إليه بخلاف إسماعيل، وقيل لأنه لا يناسب ذكره هاهنا لأنه ابتلى بفراقه ووضعه بمكة مع أمه دون أنيس، وقال الزمخشري: إنه عليه السلام ذكر ضمنا وتلويحا بقوله تعالى: {وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب} ولم يصرح به لشهرة أمره وعلو قدره، هذا مع أن المخاطب نبينا صلى الله عليه وسلم وهو من أولاده وأعلم به، والمراد بالكتاب جنسه المتناول للكتب الأربعة {ووهبنا له} على ما عمل لنا {فى الدنيا} قال مجاهد: بأنجائه من النار ومن الملك الجبار والثناء الحسن عليه بحيث يتولاه كل أمة، وضم إلى ذلك ابن جريج الولد الذي قرت به عينه.
وقد يضم إلى ذلك أيضا استمرار النبوة في ذريته، وقال السادي: إن ذلك إراءته عليه السلام مكانه من الجنة، وقال بعضهم: هو التوفيق لعمل الآخرة، وقيل: هو الصلاة عليه إلى آخر الدهر، وقال الماوردي: هو بقاء ضيافته عند قبره وليس ذلك لنبي غيره، ولا يخفى حال بعض هذه الأقوال، وذكر بعضهم أن المراد آتيناه أجره بمقابلة هجرته إلينا، وعليه لا يصح عد الإنجاء من النار من الأجر بل يعد إعطاء الولد والذرية الطيببة واستمرار النبوة فيهم ونحوه ذلك مما كان له عليه السلام بعد الهجرة من الأجر، وعطف هذا وما بعده من قوله تعالى: {وإنه في الآخرة لمن الصالحين} أي لفي عداد الكاملين في الصلاح من التعميم بعد التخصيص، كأنه لما عدد ما أنعم به عليه من النعم الدينية والدنيوية قال سبحانه: وجمعنا له ما ذكر خير الدارين. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه}.
لما تم الاعتراض الواقع في خلال قصة إبراهيم عاد الكلام إلى بقية القصة بذكر ما أجابه به قومه.
والفاء تفريع على جملة {إذ قال لقومه اعبدوا الله} [العنكبوت: 16].
وجيء بصيغة حصر الجواب في قولهم {اقتلوه أو حرقوه} للدلالة على أنهم لم يترددوا في جوابه وكانت كلمتهم واحدة في تكذيبه وإتلافه وهذا من تصلبهم في كفرهم.
ثم ترددوا في طريق إهلاكه بين القتل بالسيف والإتلاف بالإحراق ثم استقر أمرهم على إحراقه لما دل عليه قوله تعالى: {فأنجاه الله من النار} و{جواب قومه} خبر {كان} واسمها {أن قالوا}.
وغالب الاستعمال أن يؤخر اسمها إذا كان {أن} المصدرية وصلتها كما تقدم في قوله تعالى: {إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا} في آخر سورة [النور: 51] ، ولذلك لم يقرأ الاسم الموالي لفعل الكون في أمثالها في غير القراءات الشاذة إلا منصوبا.
وقد أجمل إنجاؤه من النار هنا وهو مفصل في سورة الأنبياء.
والإشارة ب {ذلك} إلى الإنجاء المأخوذ من {فأنجاه الله من النار} وجعل ذلك الإنجاء آيات ولم يجعل آية واحدة لأنه آية لكل من شهده من قومه ولأنه يدل على قدرة الله، وكرامة رسوله، وتصديق وعده، وإهانة عدوه، وأن المخلوقات كلها جليلها وحقيرها مسخرة لقدرة الله تعالى.
وجيء بلفظ {قوم يؤمنون} ليدل على أن إيمانهم متمكن منهم ومن مقومات قوميتهم كما تقدم في قوله: {لآيات لقوم يعقلون} في سورة [البقرة: 164].
فذلك آيات على عظيم عناية الله تعالى برسله فصدق أهل الإيمان في مختلف العصور.
ففي قوله: {لقوم يؤمنون} تعريض بأن تلك الآيات لم يصدق بها قوم إبراهيم لشدة مكابرتهم وكون الإيمان لا يخالط عقولهم.
{وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا} يجوز أن تكون مقالته هذه سابقة على إلقائه في النار وأن تكون بعد أن أنجاه الله من النار.
والأظهر من ترتيب الكلام أنها كانت بعد أن أنجاه الله من النار، أراد به إعلان مكابرتهم الحق وإصرارهم على عبادة الأوثان بعد وضوح الحجة عليهم بمعجزة سلامته من حرق النار.
وتقدم ذكر الأوثان قريبا.
ومحط القصر ب {إنما} هو المفعول لأجله؛ أما قصر المعبودات من دون الله على كونها أوثانا فقد سبق في قوله: {إنما تعبدون من دون الله أوثانا} [العنكبوت: 17] أي ما اتخذتم أوثانا إلا لأجل مودة بعضكم بعضا.
ووجه الحصر أنه لم تبق لهم شبهة في عبادة الأوثان بعد مشاهدة دلالة صدق الرسول الذي جاء بإبطالها فتمحض أن يكون سبب بقائهم على عبادة الأوثان هو مودة بعضهم بعضا الداعية لإباية المخالفة.
والمودة: المحبة والإلف.
ويتعين أن يكون ضمير {بينكم} شاملا للأوثان.
والمودة: المحبة.
فهؤلاء القوم يحب بعضهم بعضا فلا يخالفه وإن لاح له أنه على ضلال، ويحبون الأوثان فلا يتركون عبادتها وإن ظهرت لبعضهم دلالة بطلان إلهيتها قال تعالى: {ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله} [البقرة: 165].
قال الفخر: أي مودة بين الأوثان وعبدتها فإن من غلبت عليه اللذات الجسمية لا يلتفت إلى اللذات العقلية كالمجنون إذا احتاج إلى قضاء حاجة من أكل أو شرب أو إراقة ماء وهو بين مجمع من الأكابر لا يلتفت إلى اللذة العقلية من الحياء وحسن السيرة بل يحصل ما فيه لذة جسمه.
فهم كانوا قليلي العقول فغلبت عليهم اللذات الجسمية فلم يتسع عقلهم لمعبود غير جسماني ورأوا تلك الأصنام مزينة بألوان وجواهر فأحبوها.
وفعل {اتخذتم} مراد به الاستمرار والبقاء على اتخاذها بعد وضوح حجة بطلان استحقاقها العبادة.
وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر وخلف {مودة} منصوبا منونا بدون إضافة، و{بينكم} منصوبا على الظرفية.
وقرأ حمزة وحفص عن عاصم وروح عن يعقوب {مودة} منصوبا غير منون بل مضافا إلى {بينكم} و{بينكم} مجرور أو هو من إضافة المظروف إلى الظرف.
وقرأه ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ورويس عن يعقوب مرفوعا مضافا على أن تكون {ما} في {إنما} موصولة وحقها أن تكتب مفصولة، و{مودة} خبر {إن} تكون كتابة {إنما} متصلة من قبيل الرسم غير القياسي فيكون الإخبار عنها بأنها مودة إخبارا مجازيا عقليا باعتبار أن الاتخاذ سبب عن المودة.
ولما في المجاز من المبالغة كان فيه تأكيد للخبر بعد تأكيده ب {إن} فيقوم التأكيدان مقام الحصر إذ ليس الحصر إلا تأكيدا على تأكيد كما قال السكاكي، أي لأنه بمنزلة إعادة الخبر حيث يثبت ثم يؤكد بنفي ما عداه.
والخبر مستعمل في غير إفادة الحكم بل في التنبيه على الخطأ بقرينة قوله عقبه {ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا}.
ونظيره جملة صلة الموصول في قول عبدة بن الطبيب:
إن الذين ترونهم إخوانكم ** يشفي غليل صدورهم أن تصرعوا

ولما كان في قوله: {مودة بينكم} شائبة ثبوت منفعة لهم في عبادة الأوثان إذ يكتسبون بذلك مودة بينهم تلذ لنفوسهم قرنه بقوله: {في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض} الخ تنبيها لسوء عاقبة هذه المودة وإزالة للغرور والغفلة، ليعلموا أن اللذات العاجلة لا عبرة بها إن كانت تعقب ندامة آجلة.
ومعنى {يكفر بعضكم ببعض} أن المخاطبين يكفرون بالأصنام التي كانوا يعبدونها إذ يجحدون يوم القيامة أنهم كانوا يعبدونها.
ومعنى {ويلعن بعضكم بعضا} أن المخاطبين يلعن كل واحد منهم الآخرين؛ إما لأن الملعونين غروا اللاعنين فسولوا لهم اتخاذ الأصنام، وإما لأنهم وافقوهم على ذلك.
وهذه مخاز تلحق بعضهم من بعض، ثم ذكر ما يعمهم من عذاب الخزي بقوله: {ومأواكم النار}.
ثم ذكر ما يعمهم جميعا من انعدام النصير فقال: {وما لكم من ناصرين} فنفى عنهم جنس الناصر.
وهو من يزيل عنهم ذلك الخزي.
وجيء في نفي الناصر بصيغة الجمع هنا خلافا لقوله آنفا {وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير} [العنكبوت: 22] لأنهم لما تألبوا على إبراهيم وتجمعوا لنصرة أصنامهم كان جزاؤهم حرمانهم من النصراء مطابقة بين الجزاء والحالة التي جوزوا عليها.
على أن المفرد والجمع في حيز النفي سواء في إفادة نفي كل فرد من الجنس.
{فآمن له لوط} جملة معترضة بين الإخبار عن إبراهيم اعتراض التفريع، وأفادت الفاء مبادرة لوط بتصديق إبراهيم، والاقتصار على ذكر لوط يدل على أنه لم يؤمن به إلا لوط لأنه الرجل الفرد الذي آمن به وأما امرأة إبراهيم وامرأة لوط فلا يشملهما اسم القوم في قوله تعالى: {وإبراهيم إذ قال لقومه} [العنكبوت: 16] الآية لأن القوم خاص برجال القبيلة قال زهير:
أقوم آل حصن أم نساء.
وفي التوراة أنه كانت معه زوجه سارة وزوج لوط واسمها ملكة.
ولوط هو ابن هاران أخي إبراهيم، فلوط يومئذ من أمة إبراهيم عليهما السلام.
{وقال إنى مهاجر إلى ربى إنه هو العزيز الحكيم}.
عطف على جملة {فأنجاه الله من النار} [العنكبوت: 24].
فضمير {قال} عائد إلى إبراهيم، أي أعلن أنه مهاجر ديار قومه وذلك لأن الله أمره بمفارقة ديار أهل الكفر.
وهذه أول هجرة لأجل الدين ولذلك جعلها هجرة إلى ربه.
والمهاجرة مفاعلة من الهجر: وهو ترك شيء كان ملازما له، والمفاعلة للمبالغة أو لأن الذي يهجر قومه يكونون هم قد هجروه أيضا.
وحرف {إلى} في قوله: {إلى ربي} للانتهاء المجازي إذ جعل هجرته إلى الأرض التي أمره الله بأن يهاجر إليها كأنها هجرة إلى ذات الله تعالى فتكون {إلى} تخييلا لاستعارة مكنية؛ أو جعل هجرته من المكان الذي لا يعبد أهله الله لطلب مكان ليس فيه مشركون بالله كأنه هجرة إلى الله، فتكون {إلى} على هذا الوجه مستعارة لمعنى لام التعليل استعارة تبعية.
ورشحت هذه الاستعارة على كلا الوجهين بقوله: {إنه هو العزيز الحكيم}.
وهي جملة واقعة موقع التعليل لمضمون {إني مهاجر إلى ربي} لأن من كان عزيزا يعتز به جاره ونزيله.
وإتباع وصف {العزيز} ب {الحكيم} لإفادة أن عزته محكمة واقعة موقعها المحمود عند العقلاء مثل نصر المظلوم، ونصر الداعي إلى الحق، ويجوز أن يكون {الحكيم} بمعنى الحاكم فيكون زيادة تأكيد معنى {العزيز}.
وقد مضت قصة إبراهيم وقومه وبلادهم مفصلة في سورة الأنبياء.
{ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب}.
هذا الكلام عقبت به قصة إبراهيم تبيانا لفضلة إذ لا علاقة له بالقصة.
والظاهر أن يكون المراد ب {وهبنالعزيز الحكيم ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب وءاتيناه أجره} و{جعلنا} الإعلام بذلك فيكون من تمام القصة كما في سورة هود.
وتقدم نظير هذه الآية في الأنعام في ذكر فضائل إبراهيم.
و{الكتاب} مراد به الجنس فالتوراة، والإنجيل، والزبور، والقرآن كتب نزلت في ذرية إبراهيم النبوة والكتاب وءاتيناه أجره في الدنيا وإنه في الاخرة، جمع الله له أجرين: أجرا في الدنيا بنصره على أعدائه وبحسن السمعة وبث التوحيد ووفرة النسل وأجرا في الآخرة وهو كونه في زمرة الصالحين والتعريف للكمال أي من كمل الصالحين. اهـ.